Thursday, July 18, 2013

المنطق بين الرؤية العلمية المعاصرة والآراء الإسلامية التقليدية


أقسام المقالة:

- المحدوديات في المنطق طبقا للعلوم المعاصرة
- الآراء الإسلامية التقليدية حول المنطق
- المحدوديات في المنطق طبقا للصوفية
- ما بعد المنطق عند الصوفية


مقدمة مختصرة حول العلاقة بين الرياضيات والمنطق في عصرنا الحالي

أبدأ بملحوظة ربما تكون مهمة بالنسبة لبعض السادة القراء حول العلاقة بين الرياضيات والمنطق في عصرنا الحالي.

حسب ما فهمت، فقد أصبح الحديث عن أسس الرياضيات حديثا عن المنطق. والحديث عن المنطق بصفة عامة يتم باستخدام الرموز الرياضية ولا يخلو من المصطلحات الرياضية. فلم يعد الأمر كما كان في القديم حيث تُدرّس الرياضيات على حدة والمنطق على حدة. رياضيو اليوم مناطقة والرياضيات المعاصرة لا انفكاك لها عن المنطق.

ماذا عن القياس المنطقي التقليدي Syllogism ؟
موجود، ولكنه صار جزءا صغيرا في مجال المنطق. ورأيت في عدد من الكتب الحديثة أن القياس المنطقي التقليدي لا يحتل إلى بضع صفحات، كلها بالرموز الرياضية المتفق عليها. وقد صار نوعا من الحساب وشكلا من أشكال المعادلات الرياضية. وبالمناسبة، هناك بعض التعديلات فيما يخص أشكال القياس التقليدية.

المحدوديات في المنطق طبقا للعلوم المعاصرة

حسب ما فهمت، فقد دارت نقاشات مكثفة بين بعض الرياضيين اللامعين في بداية القرن العشرين. وكانت هناك جهود جدية بهدف الوصول إلى أرضية متينة للرياضيات والمنطق. ولكن الوصول إلى ذلك الهدف لم يتحقق.

ربما يختلف الواقع - على ما هو عليه - عن ما يظنه الكثير منا حول "كيف يجب أن يكون ذلك الواقع"، بناء على "ما يظهر لنا".

إذا نظرنا إلى تاريخ العلوم المعاصرة، نجد عددا من الحالات التي بذلت فيها جهود عظيمة مبنية على نظرة متفائلة طموحة، وكانت تهدف للوصول إلى هدف معين، ولم يتحقق الهدف المنشود، ولكن أدت نفس تلك الجهود إلى ظهور أفكار جديدة رائعة ، قد لا تكون لها علاقة بالهدف الأصلي، ولكن كانت لها فوائد جمة واستخدامات نافعة للبشرية.

وربما خاب ظن بعض الرياضيين حين أدرك أن العلوم البشرية ستظل غير مكتملة و لن تتصف بصفة الكمال. ولكن ذلك الجهد لم يذهب سدى، على الأقل في مجال الحواسيب، إذ يبدو أن الباب المفضي للحوسبة والحواسيب فتح كنتيجة جانبية لإدراك أن هناك حدودا في فهم الإنسان للرياضيات. أظن أن من الممكن الرجوع إلى بعض محاضرات جريجوري تشيتن، في هذا الخصوص - مثلا هنا -(يبدأ المحاضر كلامه في الدقيقة الرابعة ).

ستيفن هوكينغ، الفيزيائي المعروف، كتب مقالة في عام 2004 بعنوان "جويدل ونهاية الفيزياء" (هنا)، وضح فيها كيف أنه كان ينتمي إلى مجموعة من الفيزيائيين الذين كان سيخيب أملهم كثيرا إن لم يصلوا إلى نظرة نهائية للفيزياء (تشمل تفسيرا لكل شيء في الكون من أعظم المجرات إلى أدق الجزيئات). ولكنه غير رأيه فيما بعد، وعبر عن رضاه في نهاية المقالة لأن الابحاث والتطورات في الفيزياء لن تتوقف وتجمد، تماما كما لن تتوقف في الرياضيات، لإن فهم الانسان في المجالين غير مكتمل ولن يصل إلى نهاية حاسمة محددة يمكن عندها وصف علم الإنسان في المجالين بأنه تام مكتمل ونهائي. وبين أن السبب في عدم إمكانية الوصول إلى نظرية نهائية تفسر كل شيء ربما كان لأن البشر ونماذجهم الرياضية هم جزء من كون يحاولون وصفه، ولن تخلو مثل هذه المحاولات أبدا من مشكلة "الرجوع الذاتي" ، لأن البشر لا يمكنهم رؤية الكون من خارجه (على حد تعبيره، وكما يبدو فهو يشير إلى استحالة تحقق الموضوعية المطلقة في العلوم البشرية)، ونتيجة لتلك المشكلة، ستظل النماذج الرياضية الفيزيائية تعاني من عدم الاكتمال وعدم تحقق الاتساق التام (حسب ما برهنه الرياضي كيرت جويدل)، وهذا كما يقول، هو وضع النظريات الفيزيائية اليوم.

من بين كل المجالات العلمية المعاصرة، يبدو أن الفيزياء تحظى بأكبر قدر من الإعجاب، خصوصا عند النظر إلى المنجزات التى تحققت في أرض الواقع بسبب التطورات في مجال الفيزياء. وفي نفس الوقت فالفيزياء هي المجال العلمي الأكثر التصاقا بالرياضيات (بعض أهم الاسهامات في الرياضيات جاءت نتيجة للحاجة إلى أدوات رياضية مناسبة للتعامل مع ظواهر فيزيائية). فإن لم يمكن وصف أي من المجالين بالكمال، فبقية المجالات العلمية أدعى لأن تكون أكثر بعدا عن الكمال.

حسب ما فهمت، فالمشكلة في الأسس هي كالتالي:

حين يرغب الواحد في بناء منزل، يبدأ بطوبة صلبة مسلم بوجودها و لا تحتاج إلى برهان يثبت وجودها، ثم يضع طوبة أخرى مثلها إلى جوارها ليبني حائطا، وهكذا حتى يتم البناء.

ما حصل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وربما في ظل حالة من الافتتان بالرياضيات ومنجزاتها التي لا شك في فائدتها ، أن شرع عدد من كبار الرياضيين في البحث عن أسس منطقية متينة للهيكل الجميل الظاهر أمامهم للرياضيات. وكان هناك اعتقاد بحتمية الوصول إلى أسس منطقية تامة الاتساق ، مماثلة تماما لقطع الطوب الصلدة التي يؤسس عليه بناء البيت. ولكن صادفتهم أمور محيرة. فمع كل الجهود والابحاث كانت هناك فجوات لم يجد الرياضيون طريقة لتجاوزها (بغية الوصول إلى "رؤيتهم بكيفية بناء المبنى الظاهر" المشاهد أمامهم) إلا بمحاولة تغطيتها بافتراضات تحكمية.

وكانت هناك حيرة لم يستطع شيوخ الرياضيات إخفاءها. وبينا هم كذلك، إذا برياضيين شابين، وهما كيرت جويدل و آلان تيورينج، يقدمان أوراقا علمية في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت لها نتائج مذهلة. ولكن تلك الأوراق ما قدمت حلولا تسهم في تقليل حيرة الرياضيين ، بل سارت في اتجاه معاكس، مرسخة فكرة عدم إمكانية تجاوز محدوديات معينة في أسس الرياضيات والمنطق.

تيورينج، وبسبب ورقته العلمية، عرف فيما بعد بلقب أبي علوم الحاسوب، وكفى باللقب إشارة إلى أهمية جهده. أما جويدل فتحدث عنه الاستاذ جريجوري تشيتن في ٢٠١٠ في ندوة "حدود الفهم" (هنا - الدقيقة ٢٢ - والندوة فيها معلومات عن حدود الرياضيات والمنطق.  #١) حيث ذكر أن ما قدمه جويدل سحب البساط من تحت الاعتقاد التقليدي بيقينية الرياضيات، وأحدث زلزالا في عالم الرياضيات لا زلنا نرى تأثيره اليوم، ونشعر بسببه بحركة الأرض تحت أرجلنا، حتى بعد ثمانين سنة من تقديم ورقته العلمية.

حاول الرياضيون الوصول إلى تقرير كمال الرياضيات وصدموا بعدم الاكتمال. ولا يزال يوجد حتى اليوم من يأمل الوصول إلى تقرير الكمال في الرياضيات، ولكن ترجيح عدم الاكتمال هو السائد بين العلماء، حسب ما فهمت.

إذا هناك حاجة إلى افتراضات يختارها الناظر (مما يعني عدم خلو الرؤية من وجود الجانب الذاتي للناظر، ومما يعني في نفس الوقت عدم تحقق الموضوعية المطلقة) للوصول إلى ما يشعر الناظر بأنها صورة مقبولة ومتسقة لما يظهر له في الخارج.

  وحسب ما فهمت، فنفس الشيء يمكن أن يقال عن كل مجال من مجالات العلوم المعاصرة، و بدون استثناء. فحتى في الفيزياء لم يتم التوصل إلى ما يمكن تسميته بالجزء النهائي الذي لا يحتاج الى تفسير ولا برهان. بل وحتى معاني الزمان والمكان ليست كما نعرفها ونألفها، عند مستوى الجزيئات الصغيرة جدا. ولذلك، فالحديث عن فكرة مماثلة للطوب المستخدم في بناء المنزل، لا يبدو واردا، في ظل ما توصل إليه الفيزيائيون حتى الآن.

في النصف الأول من القرن العشرين احتدم النقاش بين فريقين من الفيزيائيين الأول ينظر إلى الفيزياء التقليدية والنسبية العامة و يرى بالتالي أن هناك إنضباطا تاما ونظاما محكما لقوانين الفيزياء وما علينا إلا أن نكتشفه ونصل إليه، و آينشتاين من أبرز من قال بذلك وله قولة مشهورة "God doesn't play dice". وفي المقابل كان هناك الباحثون في ميكانيكا الكم الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اللجوء الى الاحتمالات في دراساتهم ، مما جعلهم يميلون إلى نفي إمكانية وجود النظام المحكم.

في حدود ما عرفه العلماء في الطبيعيات هناك ما يظهر وكأنه سلوك عشوائي وهناك ما يجدونه لا نهائيا. ولكن ذلك لا يلزم أن يعني أن ما في الكون خارج عن الإحصاء، حتى وإن بدت بعض الأمور بأنها لا نهائية ولا يمكن إحصاؤها. إذ لا يشترط أن يحيط الإنسان بكيفية إحصاء كل شيء. أذكر لابن عربي ملحوظة بأن ما قد يبدو لا نهائيا فهو بالنسبة للمخلوقات فقط ( # ٢) . ترى هل يمكن أيضا إضافة أن ما قد يبدو عشوائيا أو يسير وفق قوانين الاحتمالات، فهو كذلك، فقط في حدود علم البشر ؟ كوننا غير قادرين على الاحاطة بما يجري في الكون لا يلزم منه القول بعدم وجود نظام محكم (# 3). وربما كان الموقف الأنسب هو القول بأن هناك نظاما محكما ولكن ليس للمخلوق الاحاطة به. ومن ثم تبدو العشوائية أو الاحتمالات أو هوامش الخطأ أمورا لا مفر حتى لأذكى العلماء من الإشارة إليها والتأكيد عليها، وهو أسلوب حصيف وملائم من قبل العلماء المعاصرين، في إطار العلوم البشرية وتعاملا مع أمر واقع لا يمكن تجاهله، و المناهج العلمية المعاصرة تبرز هذه الجوانب بوضوح.

عموما، ما فهمته بناء على الرؤية المعاصرة للرياضيات والفيزياء يجعلني أتساءل إن كان للصلابة والمتانة أي معنى على الاطلاق، أو سيكون لها أي معنى يوما ما لدى العلماء المعاصرين.

يبدو أن من المعتاد أن نشعر بقوة حيال وجود الكمال والانضباط التام الذي لا يخرج عنه شيء في الكون. ولكن أحيانا يبدو أنه ومهما حاول المرء، فإن هدفا ما قد يظهر وكأنه سراب، كلما حاول الاقتراب منه، كلما زاد ادراكه بعدم إمكان الوصول إليه. وهكذا كما يبدو هو دائما هدف الوصول إلى علم بشري تام مكتمل ، في أي مجال كان. سيظل الكمال حلما عن عالم مثالي تام. ولكن أظن أن مثل تلك الاحلام صحية ، ولا تخلو الجهود المبذولة للوصول إلى الكمال من فوائد. كما تبين في حالة الجهود المبذولة للوصول إلى تقرير كمال الرياضيات، حيث تبين عدم إمكانية ذلك، ولكن تم الوصول بدلا عن ذلك إلى علوم الحاسوب.

بغض النظر عن التوجهات الفكرية (خصوصا بالنظر إلى الخلفيات الفكرية السائدة بين العلماء المعاصرين)، ربما يجدر بنا أن نتأمل في سبب عشق الكثير منا لفكرة الكمال. أو بكلمات أخرى، ترى ما سبب شعور الكثير منا شعورا قويا بوجود الكمال، حتى وإن لم يكن بمقدورنا، في عالمنا الذي نوجد فيه، لمسه أو الإحاطة بكنهه ؟

طيب، بعد أن سردت ما فهمت عن كيف يرى العلماء المعاصرون المنطق، لنترك مجال العلوم المعاصرة وننتقل إلى مجال العلوم الدينية. ونبدأ بفكرة بدهية وهي أن الوجود واحد بالنسبة للجميع، أيا كان الاختيار للزاوية التي يتم النظر منها إليه. والسؤال الآن، هو كيف نظر المسلمون تاريخيا إلى المنطق؟ وهل هناك وجه للمقارنة مع الرؤية المعاصرة ؟


الآراء الإسلامية التقليدية حول المنطق

أظن أن هناك ثلاثة آراء تقليدية،

الرأي الأول لمجموعة من العلماء حاولت جهدها إبعاد الناس عن المنطق. و من أقوالهم المشهورة "من تمنطق فقد تزندق" و "المنطق لا يحتاجه الذكي ولا يفهمه البليد" وغيرها. والمنطق باختصار لا فائدة فيه من وجهة نظرهم.

و ربما يمكن تبرير موقفهم بأن المنطق لم يأت منفصلا عن مجموع كتابات اليونانيين التي شملت مجالات عدة من ضمنها الفلسفة الإلهية، والتي اعترض عليها أغلب العلماء المسلمين. و ربما كان موقف المعرضين عن المنطق جزءا من إعراض عن كل ما له أي علاقة بتلك الفلسفة، خشية أن يمتد الاعجاب بالمنطق مثلا إلى جوانب أخرى في كتب الإغريق.

الرأي الثاني، وهو الأكثر انتشارا في التاريخ الاسلامي حسب ما فهمت، هو رأي علماء الكلام. وهم أيضا انتقدوا الفلسفة الالهية اليونانية ولكنهم فرقوا بينها وبين علم المنطق كأداة تجريدية لها استعمالات كثيرة ومفيدة. وموقفهم كان أن "المنطق آلة تعصم الذهن من الخطأ".

الرأي الثالث هو للصوفية، ولا أظن أن من الممكن وصفه بأنه أبيض-أو-أسود فيما يخص المنطق. وربما يتضح الأمر بالنظر إلى موقف عالم مشهور مثل الإمام الغزالي، والذي كان أستاذا في علم الكلام وأصول الفقه. وكتابه المستصفى يعد من أهم كتب الأصول في التاريخ الاسلامي. وقد وصف الإمام الغزالي في مقدمة المستصفى المنطق بأنه "مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها، فلا ثقة له بعلومه أصلا". ولكن الإمام الغزالي كان صوفيا أيضا. وبالرغم من كونه من علماء الكلام الذين استخدموا المنطق في علم التوحيد، ذكر في الإحياء (في كتاب قواعد العقائد) عن علم الكلام:

"وأما عن منفعته فقد يُظَنُّ أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف" ثم يقول "فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود."

قد يبدو من التناقض أن يكون لشخص واحد رأيين مختلفين حول المنطق، ولكن من المهم ملاحظة السياق المختلف الذي جاء فيه كل من الرأيين .

ففي مجال الفقه كانت هناك جهود جماعية منظمة ممتدة عبر الأجيال. من ناحية أخرى، لا تخفى أهمية المنطق في أي نظام قانوني معاصر، حيث هناك أيضا مباديء وأسس، وقوانين تستند إليها وتستمد شرعيتها منها، وقواعد لتناول حالات غير مسبوقة، وطرق للوصول إلى قوانين جديدة متسقة مع الأسس والكيان القانوني القائم. وسواء في الأنظمة القانونية المعاصرة أو في الفقه الاسلامي فمثل تلك الجهود الجماعية المنظمة الممتدة عبر أجيال، تحتاج إلى منهج وقواعد متفق عليها، والمنطق يساعد كثيرا في هذه الحالة، ويصلح لمثل تلك الاستعمالات.

والإمام الغزالي كان يتحدث إلى الطلاب في كتاب موجه لهم، قائلا: لا بد من التمكن من المنطق للنجاح في علم أصول الفقه.

أما رأي الإمام الغزالي الثاني حول المنطق فقد جاء في مجال علم التوحيد، وحديثه عن مستوى متقدم في ذلك المجال. وما فهمته باختصار عن مجمل رأيه، ورأي غيره من الصوفية، حيال التوجه العقلاني في مجال علم التوحيد، أنه لم يكن ذما للمنطق أو محاولة للتقليل من شأنه بقدر ما كان للتنبيه على حدوده التي لا مفر منها، من وجهة نظر الصوفية، عند تناول مفاهيم دينية عميقة، وتقرير أن المنطق لا يصلح لتناولها (#4).


المحدوديات في المنطق طبقا للصوفية

هل للمنطق قوانين مطلقة، كاملة، تامة، تتجاوز المكان والزمان؟ أم أن المنطق علم بشري، وهو جزء من إدراك المرء للوجود، وهو إدراك لا يتسم بالكمال ولا بالإحاطة التامة، وقابل للتطور والتحسن محسنا لجوانب من معارف وعلوم البشر، بما فيها المنطق؟

كان المنطق قديما عبارة عن مصطلحات محدودة وأشكال قياس ثابتة، وهو الآن تطور إلى لغات منطقية لها مفردات وتعبيرات أفادت البشرية كثيرا. ولا يبدو أن هناك ما يمنع من تطوره أكثر من ذلك. ولكن التطور يشير ضمنا إلى الحركة والتغير وعدم الثبات في علم المنطق، مما يعني أنه علم لا يتسم بالكمال وقابل للتطور والتحسن.

بالنسبة لتجاوز المكان والزمان، فعلماء الكلام يقولون بنشأة المكان والزمان مع نشأة الكون، ويبدو أن الفيزيائيين المعاصرين يوافقون على ذلك، ولكنهم يضيفون أن القوانين الفيزيائية نشأت أيضا مع نشأة الكون، و يتحدثون عن نقطة لم يكن عندها وجود للقوانين الفيزيائية.

سبق في القسم الأول من المقال ذكر كلام ستيفين هوكنج بأن سبب عدم امكانية الوصول إلى تفسير كامل تام في الفيزياء، وما دعاه بالتالي إلى ترجيح رأي جويدل حول عدم الاكتمال، هو أن البشر ونماذجهم هم جزء من كون يحاولون وصفه. كلمة  نماذج عامة ولا أذكر نصا صريحا بأن الهياكل المنطقية جزء من تلك النماذج ، ولكن من مجمل ما فهمت عن هذا الموضوع فما يظهر لي هو أنها تشمل الهياكل المنطقية.

بالنسبة للصوفية، فلابن عطاء الله السكندري في مناجاته هذه العبارة: "كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟". و طرق الاستدلال على وجود الله والتي يستخدمها علماء الكلام تشمل دليل الحكمة، وهو ما ركز عليه ابن عجيبة في شرحه للحكم بخصوص هذه العبارة، ولكنها تشمل الأدلة المنطقية أيضا. يبدو أن هناك احتمالا جيدا بأن الصوفية يرون المنطق جزءا من العالم، وبالتالي لا يتجاوز المكان والزمان.

لا أدري إن كانت هاتان النقطتان (المنطق عرضة للتطور والتغير، ولا يتجاوز المكان والزمان) كافيتان لتبرير موقف الإمام الغزالي والصوفية بصفة عامة حول حدود المنطق.

كان الإمام الغزالي أستاذا متمكنا من المنطق ومتمسكا به ومشجعا على استخدامه في أمور تتطلب جهدا فكريا منظما، كما هو الحال في أصول الفقه (تأليف المستصفى بالمناسبة كان بعد تأليف الإحياء). ولكن في نفس الوقت له تنبيهاته المتكررة عن حدود المنطق في علم التوحيد.

ومن الملاحظ تركيز الامام الغزالي والصوفية عموما على مستويين من إدراك معاني المفاهيم الدينية: المستوى الأول مبدئي لعموم المسلمين ولا يتطلب إلا الإيمان والتسليم بالمفاهيم الدينية بدون الحاجة إلى الخوض في تفاصيلها، ثم مستوى متقدم يتحقق فيه الصوفي بمعاني تلك المفاهيم ذوقا ومشاهدة لا حاجة معها لأي قياس منطقي. المسار الأمثل عندهم حسب ما فهمت هو أن يبدأ المسلم بالمستوى الأول متمسكا بالفروض والأذكار وغيرها من النصائح والسلوكيات الدينية التي تساعد على التنقية الداخلية، إلى أن يصل إلى المستوى المتقدم. دون الحاجة إلى فلسفة الأمور، بل بانكشاف المعاني تدريجيا مع تنقية داخلية تدريجية. حتى تتغلب أهمية الذكر على الكلام وحضور الخالق على حضور الخلق والتركيز على الطريق على التركيز على جوانب الطريق.

بقيت نقطة مهمة بخصوص دور علم الكلام في المجتمع. فمع التنبيه إلى حدود المنطق في مستويات الادراك المتقدمة، يمكن بسهولة العثور على تعبيرات إيجابية واضحة تجاه علم الكلام وعلماء الكلام ودورهم في المجتمع الإسلامي وذلك لدى الغزالي وابن عطاء الله وابن عربي وزروق والشعراني وغيرهم. وموقف الصوفية، كما فهمته، تجاه علم الكلام هو كالتالي:

المسلم المولود في بيئة إسلامية ينشأ معتقدا بعقيدة أسرته ومجتمعه، عقيدة تشربها وترسخت في ثقافته قد لا يحتاج معها إلى البحث عن دليل عليها. وصحيح أن الصوفي المتقدم في التصوف يتحقق ذوقا ومشاهدة بمعاني نفس تلك العقيدة ولا يحتاج أيضا إلى البحث عن دليل، ولكن يبدو أن القليل من البشر يصل إلى مثل تلك المرحلة. وستبقى هناك فئات في المجتمع المسلم محتاجة إلى المعلومات الدينية المعروضة بأسلوب يناسب ثقافة كل عصر.

ظروف كل عصر مختلفة، وقد تكون الفئة المحتاجة إلى جهود علماء الكلام هي الأكبر نسبة. ودور علماء الكلام تاريخيا، كان في عرض الثوابت الدينية بما يتناسب مع الفهم والثقافة المنتشرة.


ما بعد المنطق عند الصوفية

علم المنطق إنجاز بشري في غاية الأهمية وله فوائد جمة، هذا لا شك فيه. ولكن ذلك لم يستلزم القول بكماله، سواء عند الصوفية أو عند العلماء المعاصرين.

الصوفية يؤكدون على أهمية المنطق ولكن ينبهون إلى أن له حدودا. والكثير من الناس قد لا يهتمون بأن للمنطق حدودا أو ربما لا يرون تلك الحدود. ولكن ممن يرى تلك الحدود هناك من يختار أن يتقبل وجودها ثم يمضي في طريقه وحياته المعتادة. أما الصوفية فيبدو أن التحقق بتلك الحدود مرتبط لديهم بمستوى إدراك متقدم في المعرفة، لا تساعد فيه حتى اللغة على الحديث عنه فضلا عن استخدام المنطق.

قال ابن عطاء الله في الحكم: "فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة" . وأظن أن الإمام الغزالي قصد نفس الشيء حين تحدث في المنقذ عن مستويات متقدمة من المعرفة "يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول مُعَـبِّر أن يعبّر عنها إلا واشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه".

الإمام الغزالي مع تمكنه في المنطق والكلام إجتاحته الحيرة والتساؤلات وعانى منها ولم يجد الحل في الجهد العقلاني البحت بل جاء الحل من طريق مختلف، كما قال في المنقذ: " وأخيرا، شفاني الله، ووجدت نفسي أعود إلى الصحة والتوازن. وأصبحت أقبل مرة أخرى الحقائق العقلانية الضرورية واستعدت ثقتي بخصائصها اليقينية التي يُعتمد عليها. ولكن ذلك لم يأت عن طريق البيان المنظّم أو النقاش المرتّب، بل بسبب نور قذفه الله تعالى في صدري. ذلك النور هو المفتاح للجانب الأعظم من المعرفة".

الرياضيون وصلوا إلى الحيرة ، فمن جهة ظهر أمامهم هذا البناء المنطقي الرياضي الرائع ، ولكن لكل بناء أساس ولا بد، فبحثوا عنه موقنين بحتمية الوصول إليه، وما وجدوا ما كانوا يأملون العثور عليه. فلم يجدوا من المسلمات الأساسية الصلدة التي تفسر نفسها ولا تحتاج إلى برهان، ما يكفي لإقامة البناء الماثل أمامهم. وهنا مصدر الحيرة. فاضطروا لقبول الأمر الواقع واللجوء إلى افتراضات وضعوها وضعا حتى يتم لهم الاتساق بين الأسس والمبنى الظاهر. وكانوا يأملون أن يصل الرياضيون مستقبلا لحل يزيل الاشكال، فإذا بالمشكلة تزداد عمقا على يد جويدل وتيورنج اللذان أعلنا عدم إمكانية الخروج من المأزق. فحسب جويدل، لا بد في أي نظام صوري من مسلمات لا يمكن إثباتها داخل النظام، وبالتالي لا يمكن إثبات صحة المسلمة أو نقيضها من داخله. ومن هنا عدم الاكتمال وعدم الاتساق في النماذج الرياضية والفيزيائية. والحاجة التي لا مفر منها لاختيار مسلمة لا حيلة معها للعالِم في مجال علمي معين إلا الزعم بصحتها، لإكمال بناء نموذج يرجو العاَلِم أن يكون ممثلا أقرب تمثيل لما هو الأمر عليه في العَالَم الواقعي في الخارج.

المنهج الصوفي مختلف. فالإمام الغزالي كان في أشد الحاجة إلى التحقق من الضروريات العقلانية، وتم له ذلك، ولكن، وكما قال، فالتحقق بالحقائق العقلانية الضرورية لم يأت عن طريق البيان المنظم أو النقاش المرتب، بل بسبب نور قذفه الله في صدره.

بحث الرياضيون عن أسس صلبة يقف عليها المنطق القائم أمامهم فما وجدوها. وبحث الفيزيائيون عن أسس متينة راسخة نهائية تقف عليها المادة الماثلة أمامهم فما وجدوها. وبحث الإمام الغزالي عن أسس الحقائق العقلانية الضرورية فما وجدها في "البيان المنظم و النقاش المرتب". ولجأ الرياضيون إلى افتراضات اتفقوا على صلاحيتها كأسس ، بينما وجد الإمام الغزالي جوابه بسبب "نور قذفه الله في صدري".

وهكذا كما يبدو، فوصول الإنسان العاقل إلى الحيرة هو تجربة إنسانية عادية مشتركة، مع اختلاف أسباب الوصول إليها ، وتباين النتائج التي يستقر عليها من يخوض تلك التجربة. الوجود هو نفسه للجميع، ولا غرابة في أن يصل إلى الحاجة الماسة إلى معرفة أسس اليقين العقلي كل من العالم الرياضي والشيخ الصوفي، ولكن يبدو أن الرياضي تعامل مع أمر واقع عليه أن يتعايش معه، بينما انتهى الصوفي إلى التحقق بالإيمان وأسسه تحققا لا ريب فيه. ولكن التحقق بالجواب الشافي لا يعني بالضرورة القدرة على التعبير عنه باللغة والمنطق البشريين (كما أشار إلى ذلك الإمام الغزالي حين تحدث عن مستويات "يضيق فيها نطاق النطق"). و ربما كان الوضع الأمثل هو توفر الجانبين معا، فالتعامل بشكل مناسب، وفي حدود الأدوات المتاحة للإنسان، مع الأمر الواقع، مهم. والتحقق بالجواب الشافي مهم. ولا يبدو أن هناك تناقضا، بل ربما كانا مستويين من رؤية الموضوع نفسه.

نعم، ربما كانا مستويين. في أحدهما محاولات لسبر غور ما يظهر بالنظر (حسا وعقلا)، مع تحقق بحدود إمكانية المحاولات. فالفكرة الأساسية في الجهود العلمية المعاصرة هي البحث عن علامات للنظام خلف الظواهر محل الدراسة. وإذا أُخِذَت الفكرة إلى نهايتها الطبيعية فليس من الغريب أن نجد من يتحدث عن النظام المحكم في الظواهر الطبيعية أو نظرية كل شيء أو الأساس الراسخ للرياضيات والمنطق. هناك "إحساس" واضح لدى العلماء المعاصرين بوجود نظام ما وراء الظواهر، وإن كانوا مدركين لحدود قدرتهم على معرفته بدقة تامة والاحاطة به.

أما عند المستوى الآخر فيبدو أن هناك نوع إدراك بما وراء ما يظهر، مع تحقق بحدود إمكانية التعبير عنه بأدوات تحليل وطرق تعبير لا يمكن لها إلا أن تقف عند حدود ما يظهر.

إن صح ما ذكرته في حدود ما فهمته عن الموضوع إجمالا و عن موقف الإمام الغزالي والصوفية عموما بخصوص المنطق، فربما كانت نظرتهم هي الأنسب تجاه المنطق، حيث هناك اهتمام بهذا العلم وحث على تعلمه، ولكن مع التنبه إلى حدود العلوم البشرية عموما، بما فيها المنطق.





ملحوظة # 1
رابط فيه تعليق أحد الاساتذة على ندوة حدود الفهم - هنا. ومما قاله: "إذا كانت ندوة نظرية الأوتار [ندوة أخرى في نفس المؤتمر] تناولت مسألة ما إذا كان من الممكن الاعتماد على المعادلات الرياضية التي تقف عليها نظرية الأوتار، فندوة حدود الفهم تساءلت عما إذا كانت الرياضيات يعتمد عليها أصلا. فهناك قصور في الرياضيات في مواجهة أكبر التحديات العلمية اليوم".

وفي بداية فيديو الندوة يتحدث مدير الندوة الأستاذ باول نيرس في المقدمة قائلا: "العلم الحديث يقف على الرياضيات والمنطق، ويبدو أن الرياضيات هي أكثر مجالات الفهم البشري مناعة واستقرارا، فهي تقف على هيكل صلب من المسلمات والمبرهنات. ويبدو أنها أكثر مجال يستقل بذاته ويمكن الاعتماد عليه من ضمن مجالات المعرفة البشرية. ولكن هذه الصورة [المعتادة والمألوفة في أذهان الكثيرين] ليست دقيقة وواضحة تماما، كما قد يبدو. فقد بين جويدل أن الرياضيات ليست متسقة دائما، وأن هناك حقائق رياضية لا يمكن مطلقا الجزم بكونها صحيحة أو خاطئة ، وبالتالي ربما تكون الصلة بين الحقيقة [ربما يقصد الواقع على ما هو عليه] والرياضيات [كما وصلت إليه من تطور يمثل محاولة فهمنا للواقع على ما هو عليه] أقل متانة مما كنا نظن".

ملحوظة # 2
الفتوحات الباب ٢٢، "قال الله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) فقوله أحصيناه دليل على أنه ما أودع فيه إلا علوما متناهية [في علم الخالق عز وجل] فنظرنا هل ينحصر لأحد عددها فخرجت عن الحصر [بالنسبة لنا] مع كونها متناهية [في علم الله عز وجل]".


ملحوظة # 3
في إطار المفهوم الإسلامي للقضاء و القدر ، نجد أحاديث شريفة، مثل "ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" ، تشير إلى النسق المحكم لما يحدث في الكون. ولكن الإدراك البشري لذلك المفهوم مُجْمَل وفي حدود "لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" و "ما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، أما التفصيل التام ففي علم الله عز وجل. ونقص المعلومات، الذي هو سمة المخلوق، هو سبب عدم إحاطته بكل ما يجري في الكون ، ونشأة الحاجة إلى اتخاذ القرارات والاختيار بين اتجاهات السير. ومفهوم الكسب يرتكز على وجود الاختيار مع أن الله خالق كل شيء، وفي الشرع تفصيل مسهب حول الاختيارات وتنظيم أمور المسؤوليات، وكذلك هو الحال في أي نظام قانوني. ومن المعروف أنه لا يقبل من الانسان الاستناد الى "القضاء والقدر" ليتنصل من المسؤولية عن نتائج قرارته، لأن مثل ذلك الاستناد يفترض كمال معلوماته، وليس له ذلك.
إذا، هناك القضاء والقدر و علم الله التام المسبق بما سيكون، وهناك قوانين تنظم اختيارات الانسان ونتائجها، ومن ذلك يمكن الخروج بفهم للرؤية الإسلامية بأن النظام المحكم لما جرى وسيجري موجود ولكن الاحاطة التامة المطلقة بذلك ليست لنا بل للخالق عز وجل. وبناء على ذلك، أظن أن من الممكن القول بأن كون الإنسان غير قادر على الاحاطة بما يجري في الكون لا يلزم منه القول بعدم وجود نظام محكم.


ملحوظة # 4
هناك أمثلة متعددة في التاريخ الاسلامي لعلماء درّسوا المنطق وكتبوا في علم الكلام، ثم وُجدت لهم ملاحظات ربما تبدو في ظاهرها ذما للمنطق. مما أدى إلى تفسير ممكن لتلك الملاحظات بأنها دليل تراجع عن علم الكلام والمنطق. ولكن من الممكن أيضا النظر إلى نفس تلك الملاحظات بانها دليل على فهم عميق لكل من العقيدة والمنطق ، وإقرار بأهمية التفكير العقلاني البشري مع إدراك أن له حدودا، ونظرة متوازنة تخلو من الاستخفاف بالتفكير العقلاني البشري وتتجنب الغلو والمبالغة في تقديره في نفس الوقت.

-----------------
في المقالة التالية في هذه المدونة متابعة لنقاط جاءت في هذه المقالة ونقاط أخرى بنيت على معلومات وردت أعلاه:
ملاحظات على النقاش حول الدين والعلوم المعاصرة