Tuesday, July 20, 2010

مثال من الفكر الغربي لتأسيس "ضرورة الإيمان بالله" باستخدام نظرية جويدل

نظرية جويدل تعتبر من أهم التطورات في القرن العشرين في مجال المنطق والرياضيات. وهناك محاولات في الغرب لأخذ نتائج النظرية في الاعتبار في مجالات مختلفة مثل العلوم الطبيعية وأيضا في مجال العلاقة بين الدين والعلم، وبالتحديد في مجال الدفاع عن الإيمان بالله أو ما يعرف بالـ Apologitics.

المقالة المترجمة أدناه لبيري مارشال تمثل، حسب ما يبدو لي، توجها عند بعض المتدينين في الغرب لاستخدام نظرية جويدل حول عدم الاكتمال في جوانب عقائدية.

والملاحظ في المقالة أن الكاتب يبدأ بتقرير القصور في المنطق مستندا إلى نظرية جويدل، ومنتهيا بأن الإيمان بالله ضروري وبدهي، أيضا بناء على نفس النظرية، وبما يتسق مع أسس العلم الحديث، حسب قوله.

العنوان: "نظرية عدم الاكتمال لجويدل: أهم تقدم في الرياضيات في القرن العشرين."
الكاتب : بيري مارشال
الرابط: http://www.cosmicfingerprints.com/blog/incompleteness/

ترجمة نص المقالة :
-----

في عام 1931 اكتشف الرياضي الشاب كيرت جويدل اكتشافا يعتبر علامة في تاريخ الرياضيات [تم ذلك بعد حصوله على الدكتوراه بقليل، وكان في الخامسة والعشرين من عمره]، له من القوة ما يساوي أفضل ما توصل إليه ألبيرت أينشتاين. وبحملة قوية منفردة قام جويدل بدحض فئة كاملة من النظريات العلمية.

إكتشاف جويدل لا ينطبق فقط على الرياضيات بل ينطبق حرفيا على كل فروع العلوم والمنطق والمعرفة الإنسانية. إن له تطبيقات في منتهى القوة، والعجيب أن القليل من الناس يعرفون شيئا عن ذلك الاكتشاف، لذلك اسمحوا لي أن أروي لكم القصة.

الرياضيون يعشقون الإثباتات. وكانوا منزعجين منذ قرون عديدة لعدم قدرتهم على إثبات بعض الأمور التي كانوا مدركين صحتها.

على سبيل المثال، من درس الهندسة في المرحلة الثانوية، فقد قام بحل التمارين التي تثبت مختلف الأمور عن المثلثات استنادا إلى مجموعة من النظريات الأساسية. فكتاب الهندسة الخاص بالمرحلة الثانوية مبني على مسلمات إقليدس الخمس. والكل كان يدرك أن تلك المسلمات صحيحة، ولكن عبر 2500 سنة لم يستطع أحد أن يثبت أنها صحيحة.

نعم، كان "واضحا" تماما أن الخط المستقيم يمتد إلى ما لا نهاية في اتجاهين، ولكن لم يتمكن أحد من إثبات ذلك. يمكننا فقط أن نظهر أن مسلمات إقليدس الخمس معقولة، وفي الحقيقة ضرورية.

كبار الرياضيين العباقرة ولأكثر من ألفي سنة خاب مسعاهم ولم يتمكنوا من إثبات جميع نظرياتهم. هناك الكثير من الأمور "صحتها واضحة"، ولكن لم يستطع أحد أن يثبتها.

في بداية القرن العشرين، عم التفاؤل الدوائر الرياضية. وفي ذلك الوقت كان ألمع الرياضيين في العالم (مثل برتراند رسل، ديفيد هيلبرت، ولودفيغ فيتجنشتاين) مقتنعين بأنهم يقتربون بسرعة من التركيبة النهائية: نظرية موحدة لكل شيء ستقوم أخيرا بتثبيت كل الأطراف غير المثبتة، وستصبح الرياضيات بموجبها كاملة محكمة لا يمكن اختراقها، ومنتصرة [على التوجهات المباينة لمن يرى اكتمال الرياضيات].

لكن في عام 1931 نشر الرياضي النمساوي الشاب كيرت جويدل، ورقة علمية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الوصول إلى نظرية وحيدة لكل شيء هو في الحقيقة مستحيل. فقد أثبت أنهم لا يمكنهم إثبات كل شيء. (نعم، أعلم أن ذلك يبدو عجيبا، أليس كذلك؟)

إكتشاف جويدل سمي "بنظرية عدم الاكتمال" : The Incompleteness Theorem

فضلا اسمح لي ببضع دقائق من وقتك لأشرح ما تقوله النظرية، وكيف أثبتها جويدل، وما الذي تعنيه تلك النظرية - بلغة واضحة وبسيطة.

نظرية عدم الاكتمال تقول:
"كل ما يمكنك أن ترسم حوله دائرة، لا يمكن أن يفسر نفسه بنفسه دون الرجوع إلى شيء خارج تلك الدائرة، شيء يجب أن تسلّم به ولكن لا يمكنك إثباته"

فمثلا، يمكنك أن ترسم دائرة حول كل المفاهيم في كتاب الهندسة المخصص للمرحلة الثانوية. وكلها مبنية على مسلمات إقليدس الخمس، والتي نعرف أنها صحيحة، ولكن لا نستطيع إثباتها. فتلك المسلمات الخمس تقع خارج ذلك الكتاب، أو خارج الدائرة.

أيضا، يمكنك رسم دائرة حول دراجة هوائية، ولكن وجود تلك الدراجة يعتمد على وجود مصنع خارج تلك الدائرة. والدراجة لا يمكن أن تفسر نفسها بنفسها.

يمكنك أن ترسم دائرة حول مصنع الدراجات، ولكن ذلك المصنع أيضا يعتمد على أشياء خارج المصنع.

أثبت جويدل أن هناك دائما أشياء صحيحة خارجة عن قدرتك على إثباتها. فأي نظام منطقي أو عددي قدمه الرياضيون سيستند دائما على بعض الافتراضات غير القابلة للإثبات [وتؤخذ كمسلمات].

نظرية عدم الاكتمال تنطبق ليس فقط على الرياضيات، بل على كل ما هو خاضع لقوانين المنطق، وكل ما يمكنك عده أو حسابه. فعدم الاكتمال ينطبق في الرياضيات وبنفس القدر ينطبق على العلوم واللغة والفلسفة.

إثبات جويدل بدأ بما يعرف "بلغز الكذاب"، المتمثل في الجملة : "أنا أكذب." وهي جملة متناقضة ذاتيا، لأنها لو كانت صحيحة، فلست كاذبا، وبالتالي صارت الجملة خاطئة، ولو كانت خاطئة، فأنا كاذب، وبالتالي صارت الجملة صحيحة.

في خطوة تعد الأكثر عبقرية في تاريخ الرياضيات، حول جويدل لغز الكذاب إلى معادلة رياضية. وأثبت أن ليس هناك جملة يمكنها إثبات صحة نفسها. وستحتاج دائما إلى نقطة مرجعية خارجة عن تلك الجملة.

نظرية عدم الاكتمال كانت ضربة قوية للوضعيين [Positivists مثل برتراند رسل] في ذلك الوقت، والذين تمثل موقفهم بتأكيدهم حرفيا على أن ما لا يمكنك قياسه أو إثباته فهو كلام فارغ. وجويدل أظهر لهم أن فلسفتهم الوضعية كلام فارغ.

أثبت جويدل نظريته بوضوح تام ولم يستطع أحد نقض منطقه. ومع ذلك أصر بعض زملائه الرياضيين على موقفهم موقنين بأن لا بد أن يكون جويدل مخطئا بشكل أو بآخر دون قدرتهم على إثبات ذلك طوال حياتهم.

جويدل لم يكن مخطئا. فتلك كانت الحقيقة. فهناك أشياء صحيحة خارجة عن قدرتك على إثباتها. و "نظرية كل شيء" سواء في الرياضيات أو الفيزياء أو الفلسفة، لن يتم العثور عليها أبدا، لأن ذلك مستحيل رياضيا.

حسنا، فما الذي يعنيه ذلك ؟ ولم هذه النظرية في غاية الأهمية وليست مجرد مسألة يهتم بها العلماء فقط؟

فيما يلي ما تعنيه هذه النظرية:

- الإيمان والعقلانية ليسا عدوين. وفي الحقيقة، فالعكس هو الصحيح. فأحدهما ضروري لوجود الآخر. فكل التفكير العقلاني يرجع في النهاية إلى إيمان أو إعتقاد في شيء لا يمكنك إثباته.

- كل الأنظمة المغلقة تعتمد على شي خارج النظام.

- يمكنك دائما أن ترسم دائرة أكبر ولكن سيظل هناك شيء خارج تلك الدائرة.

التفكير العقلاني المتجه من دائرة أكبر إلى دائرة أصغر (من كل إلى بعض)
هو التفكير الاستنتاجي deductive reasoning ، ومثال عليه:

1. كل الرجال فانون
2. سقراط رجل
3. سقراط فان

التفكير العقلاني المتجه من دائرة أصغر إلى دائرة أكبر (من بعض إلى كل) هو التفكير الاستقرائي inductive reasoning ، ومن أمثلته:

1. كل الرجال الذين أعرفهم فانون
2. بالتالي فكل الرجال [بالتعميم] فانون

1. حين أترك الأجسام، ستسقط على الأرض
2. بالتالي فهناك قانون للجاذبية يحكم سقوط الأجسام

لاحظ أنك حين تتجه من الدائرة الأصغر إلى الأكبر يتحتم عليك أن تتبنى إفتراضات لا يمكنك إثباتها مئة بالمئة.

فمثلا، لا يمكنك إثبات أن الجاذبية ستكون متسقة دائمة في كل الأوقات. يمكنك فقط مشاهدة أنها تتحقق بشكل متسق في كل مرة.

تقريبا كل القوانين العلمية تعتمد على التفكير الاستقرائي. فكل العلوم تعتمد على افتراض أن النظام يحكم الكون، بشكل منطقي وبقوانين رياضية ثابتة قابلة للاكتشاف. ولكنك لا تستطيع إثبات ذلك.

فلا يمكنك إثبات أن الشمس ستشرق صباح اليوم التالي. ويتحتم عليك أن تؤمن وتعتقد بأن ذلك سيحصل. وما لا يعرفه معظم الناس هو أن خارج دائرة العلوم هناك دائرة الفلسفة. فالعلوم تعتمد على افتراضات فلسفية لا يمكنك إثباتها علميا. وفي الحقيقة فالمنهج العلمي لا يمكن أن يثبت شيئا، بل كل ما يفعله هو الاستدلال على مدى إمكانية شيء ما.

[ملاحظة يضعها الكاتب بين قوسين:] نشأة العلوم كانت على أساس فكرة أن الله خلق كونا منظما خاضع لقوانين ثابتة قابلة للاكتشاف، وبسبب تلك القوانين فالخالق لا يحتاج إلى تدخل مستمر حتى يعمل الكون بشكل منتظم [وهو القول بالطبع، وذلك حسب الفكر الفلسفي اليوناني، وهو على الأرجح ما يقصده هنا. هذه النقطة من النقاط التي انتقدها الإمام الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة].

الآن فضلا خذ في الاعتبار ما سيحدث لو رسمنا أكبر دائرة ممكنة، حول كل الكون. (وإذا كانت هناك أكوان متعددة، فسنرسم الدائرة حولها كلها أيضا):

- يجب أن يكون هناك شيء خارج تلك الدائرة. شيء نسلم به ولا يمكننا إثباته.

- الكون كما نعرفه محدود - المادة محدودة، الطاقة محدودة، المكان محدود، والزمن أيضا محدود [حتى اللحظة] بحوالي 13.8 بليون سنة [منذ نشأة الكون].

- الكون (كل المادة والطاقة المكان والزمان) لا يمكنه أن يفسر نفسه بنفسه.

- وما هو خارج الدائرة الأكبر للكون، لا نهائي [لأن كل ما هو محدود داخل الدائرة]، وبالتعريف لا يمكن رسم دائرة حوله.

- عندما نرسم دائرة حول كل المادة والطاقة والمكان والزمان ونطبق نظرية جويدل، سندرك أن ما هو خارج الدائرة ليس مادة ولا طاقة ولا مكان ولا زمان، لأن كل المادة والطاقة داخل الدائرة، فما هو خارج الدائرة ليس ماديا.

- ما هو خارج الدائرة ليس نظاما مركبا ، أي ليس مجمعا من أجزاء، لأن الأجزاء دخلت في الدائرة التي رسمناها، [وبما أنه ليس نظاما مركبا] فما هو خارج الدائرة الأكبر، لا ينقسم.

- ما هو خارج الدائرة الأكبر مؤثـِّرٌ لا يتأثر بشيء، لأن ما يتأثر داخل الدائرة.


ويمكن أن نطبق نفس التفكير الاستقرائي على أصل المعلومات:

- في تاريخ الكون نرى أيضا دخول المعلومات، قبل نحو 13.8 بليون سنة. جاءت في شكل ترميز وراثي، رمزي غير مادي.

- المعلومات جاءت حتما من الخارج، لأن المعلومات غير معروف عنها بأنها من خصائص المادة والطاقة والمكان والزمان.

- كل الترميزات التي نعرف أصلها صممت من قبل كائنات واعية.

- بالتالي فما هو خارج الدائرة الأكبر كائن واعي.

بعد إضافة المعلومات إلى المعادلة، نخرج بنتيجة وهي أن ما هو خارج الدائرة الأكبر ليس فقط لا نهائي ولا مادي ،بل ويعرف نفسه.

[غالبا، موجها كلامه في هذه الفقرة وما يليها للادينيين:] أليس من المثير للاهتمام كيف أن كل هذه النتائج تشبه بشكل يستحق التساؤل ما قاله المتخصصون في العقائد عند وصفهم لله عبر آلاف السنين؟

ربما لذلك لا يستغرب أبدا أن يكون ما بين 80 إلى 90 في المئة من البشر في العالم مؤمنين وإن بشكل أو بآخر بمفهوم الخالق. نعم، فذلك فطري بالنسبة لمعظم الناس. ولكن نظرية جويدل تشير إلى أن ذلك منطقي جدا. وفي الحقيقة فهذا هو الموقف الوحيد الممكن تبنيه بشكل عقلاني ومنطقي.

فالشخص الذي يقول مفتخرا "أنت رجل من أهل الإيمان، أما أنا فرجل من أهل العلم" لا يعرف جذور العلوم وطبيعة المعرفة.

من يزور أكبر موقع في الانترنت للملحدين سيجد في الصفحة الرئيسية الجملة التالية:

"المذهب الطبيعي Naturalism عبارة عن فرضية بأن العالم الطبيعي نظام مغلق، مما يعني أن لا شيء يؤثر في العالم إلا إن كان جزءا منه"

ومن يعرف نظرية جويدل يدرك أن كل الأنظمة تعتمد على شيء في خارجها. لذا، فحسب نظرية عدم الاكتمال، فالقائمون على موقع الملاحدة لا يمكن أن يكونوا محقين. لأن الكون نظام، ويجب أن يكون له سبب خارجه. وبالتالي فالإلحاد يناقض قوانين الرياضيات.

عدم اكتمال الكون ليس إثباتا لوجود الله، ولكنه إثبات بأننا لو أردنا إقامة نموذج متسق للكون، فالإيمان بالله ليس فقط منطقي مئة بالمئة بل وضروري.

لا يمكن إثبات مسلمات إقليدس بشكل منهجي، وبنفس الطريقة لا يمكن إثبات وجود الله بشكل منهجي، ولكن كما أننا لا نستطيع بناء نظام متسق للهندسة بدون مسلمات إقليدس الخمس، لا نستطيع أن نبني وصفا متسقا للكون بدو العلة الأولى، مصدر التنظيم في الكون.

إذا، فالإيمان والعلم ليسا عدوين، بل حليفين. فهما وجهان لنفس العملة. وذلك كان صحيحا عبر القرون، ولكن في عام 1931 قام الرياضي الشاب ،النمساوي النحيل المسمى بكيرت جويدل بإثباتها.

لم يحصل في أي فترة في التاريخ الإنساني أن كان الإيمان بالله أمرا معقولا ومنطقيا و مدعوما بقوة بالتفكير العقلاني والعلوم والرياضيات كما هو الحال اليوم.

----- انتهى

تعليق:

أحد أساتذة الرياضيات وعلوم الحاسوب علق في مدونته قبل بضعة أشهر على مقالة مارشال، ولفتت نظري شدة الانتقاد، فرجعت إلى المقالة لأقرأها، كما كتبها كاتبها. وفيما يلي بعض الانطباعات بعد قراءة المقالتين، وفي حدود فهمي لجوانب الموضوع.

*
نظرية جويدل Gödel حول عدم الاكتمال Incompleteness مجالها أساسا هو الرياضيات البحتة، وهو مجال نظري عادة ما يوصف بأنه "عالم تجريدي" يستخدم لوضع نماذج رياضية منطقية. بعض تلك النماذج تظل في الجانب التجريدي وبعضها يستخدم في محاولة لتمثيل ظواهر في عالم الواقع بغرض المساعدة على توضيح الأفكار وتحسين فهم الباحثين لتلك الظواهر. ومهما بلغت تلك النماذج من تعقيد، فلا أعلم أن أحدا من العلماء المعاصرين يقول أن أي منها يمثل كل العوامل في العالم الواقعي، على ما هو عليه، تمثيلا تاما، حتى بالنسبة لظاهرة وحيدة فقط. العلاقة بين الجانبين موجودة ولكن التطابق بينهما منفي بشكل واضح ومؤكد عندهم. ولا "ينتقل" العلماء المعاصرون من الجانب النظري إلى جوانب تطبيقية في العالم الواقعي، إلا بحذر وبعد سرد قائمة من الأمور التي تؤخذ في الاعتبار عند التحدث عن مثل ذلك الانتقال ومحدودياته.

وحسب ما لاحظت، فهذه النقطة يعتبرها العلماء المعاصرون محورية وفي غاية الأهمية بالنسبة لهم. وكثيرا ما يظهر التعجب (أو الاستياء في بعض الحالات) في تعليقات العلماء عندما يرون بعض المتدينين يقومون بتبني بعض النظريات البحتة المعاصرة أو النتائج التطبيقية العلمية في أغراض دينية، دون مراعاة الخلفية العلمية والتنبه إلى حدود تلك النظريات، والنفي المسبق بأن تكون مطابقة تماما للواقع على ما هو عليه، وحدود وسياق النتائج التطبيقية، وحدود اللغة العلمية ومصطلحاتها، والصياغة الاحتمالية عموما في عباراتهم، والفرق الأساسي عندهم بين الجهد العقلاني البشري المبذول في الجانب النظري من جهة والأمور على ما هي عليه من جهة أخرى، مستنكرين تقويل العلماء المعاصرين ما لا يقولون وتحدث بعض المتدينين في أمور تستلزم التمكن من أسس المنهج العلمي المعاصر وفهمه كما يفهمه العلماء المعاصرون.

*
بالنسبة لانتقادات العلماء المعاصرين فأشعر أن بعضها في محلها وينبغي مراعاتها وملاحظتها، ولكن ليست كلها كذلك. فمن الممكن أن نجد انتقادات فيها شيء من البعد عن الإنصاف، ومبالغة في الانتقاد تصل أحيانا إلى حد السخرية أو تعمد الاستناد إلى آراء غير مشهورة ولا يتبناها الكثير من العلماء المعاصرين (فقط لإن تلك الآراء قد لا تدعم الوصول إلى النتيجة التي يسعى إليها المتدين). وأظن أن من المهم التمييز بين الانتقادات العلمية الأمينة التي تستحق التنبه لها، وتلك التي تختلط بآراء وقناعات شخصية لا علاقة لها بالمنهج العلمي الرصين، قد تظهر في شكل التقليل من شأن جهد بعض المتدينين ومحاولة إظهارهم بمظهر من لا يفهم العلوم المعاصرة، ربما بهدف دعم وجهة النظر التي ترى أن هناك تباعدا بين الدين والعلم.

*
أشعر أن هناك حاجة لكلا الرؤيتين والتوجهين الديني والعلمي، حتى وإن لم نجد ما يكفي من علامات الارتباط بينهما. فالمجالات المعرفية المختلفة، لا توجد دائما صورة واضحة للارتباط بينها، مع أن كل منها في حد ذاته معروف جيدا.

وربما تترجح إمكانية التوفيق بملاحظة أن كلا الرؤيتين لها ما يؤيدها من حيث التجربة الإنسانية المتسقة، وأن هناك جانب اعتقادي وجانب عملي لكل من التوجهين، لا ينفكان ولا يمكن الفصل بينهما، أو الاكتفاء بجانب والاستغناء عن الآخر. فهناك تكامل وحاجة إلى الجانب الاعتقادي والعملي في نفس الوقت. فالتوجه الإيماني يحتاج بدون شك إلى التعبير عن الرؤية الإيمانية (واستخدام البلاغة والبنى المنطقية من وسائل التعبير وعرض الأفكار) للتواصل مع الآخرين (وإنْ أكد بعض المتدينين على القصور في وسائل التعبير، ولكن ذلك لا يعني عدم فائدتها، ومن المستبعد أن يروا أنهم في غنى عنها). من ناحية أخرى فالتوجه العلمي المعاصر ينطلق بطبيعته في شكل جهد عقلاني بشري وفق منهج معين ومسلمات يتم اختيارها و البدء منها، وليست هناك أمور مطلقة تامة الاتساق في المنهج العقلاني البشري، بل هناك أمور "نسبية/ذاتية/يُتفق على صلاحيتها" وتشمل اختيارات تحكمية تستند إلى قناعات معينة حول طبيعة وأصل الوجود، ولكن بمسمى غير تقليدي.


أعتقد أن الفريقين لا يمكن إلا أن يتحدثا عن نفس الوجود الذي يشتركان في رؤيته، وإن اختلفت المصطلحات وطريقة النظر والأولويات. والمنصف يدرك أنه لا يملك الإحاطة بكل ما يمكن أن يُعرَف، وربما لذلك ليس من المستغرب أن لا يمتلك الانسان القدرة على بيان التوافق والاتساق بالشكل الأمثل بين المجالات المعرفية المختلفة.

عموما، فإمكانية التوفيق والتقريب بين الرؤيتين تظل واردة، وأظن أن من الانصاف تشجيع محاولات التقريب ودعمها أو التوقف على الأقل بخصوص إمكانية التقريب وتجنب إلغاء احتمالها.

--------------------------------------

في الرابط التالي في هذه المدونة أضفت ملاحظات أخرى حول الموضوع:
Gödel’s theorem in Physics and Religion

أيضا تم التطرق إلى موضوع عدم الاكتمال في الرابط التالي في هذه المدونة:
المنطق بين الرؤية العلمية المعاصرة والآراء الإسلامية التقليدية