Saturday, July 9, 2016

ملاحظات على النقاش حول الدين والعلوم المعاصرة

ملاحظات على النقاش حول الدين والعلوم المعاصرة

 

هذه المقالة تستند إلى معلومات ذكرت (وفيها متابعة لبعض النقاط التي جاءت) في المقالة التالية:

المنطق بين الرؤية العلمية المعاصرة والآراء الإسلامية التقليدية

وسأفترض فيما يلي إطلاع القاريء الكريم على تلك المقالة.

 

مـقـدمــة

هدف أي بحث منصف أمين هو الحرص على الوصول إلى النظرة الواقعية للأمور، على ما هي عليه.

أعتقد أن من غير المفيد الاستخفاف بالعلوم المعاصرة ومنجزاتها المفيدة التي لا ينكرها منصف. ومن غير المفيد أيضا المبالغة، بوصف العلوم المعاصرة مثلا بأنها تعطي معلومات تستند إلى يقين مطلق ، لأن الأمر باختصار وكما فهمت، ليس كذلك. وفيما يلي بعض التفاصيل.

بملاحظة ما وصل اليه الرياضيون والفيزيائيون حتى الآن، يبدو وكأن الحديث العلمي المعاصر صار يتجنب مجرد الإشارة الى قاع متين صلب يمكن الاستناد إليه لإبداء مواقف عن يقين راسخ.

وأعتقد أن من المهم بحث هذه النقطة بل والاستفاضة قدر الإمكان في إستيضاح جوانبها (تناقش وتشرح بالتفصيل في كتب الفلسفة العلمية المعاصرة ومناهج البحث العلمي) خصوصا لمن يرغب في التحدث عن العلاقة بين الدين والعلم المعاصر. فعدم وضوح هذه النقطة (أوالمنهج العلمي بصفة عامة) كما يبدو من وجهة نظر أخيكم القاصرة، هو جانب يحتاج الى تنبيه إذ أنه يظهر في كثير من محاولات المتدينين (بغض النظر عن الانتساب الى دين معين بالمناسبة، فالمشكلة تبدو منتشرة) المهتمين بالتحدث عن العلاقة بين الدين والعلم المعاصر. ويبدو أن عدم وضوح ما هي عليه العلوم المعاصرة مستمسك رئيس على ما يتلو من حديث المتدين المستند على ذلك الفهم غير المكتمل. وكما لاحظت فكثيرا ما لا يكلف المعترض (المعتاد على استخدام المنهج العلمي المعاصر) نفسه، وربما يكون محقا، عناء الخوض فيما يلي عدم وضوح هذه النقطة لدى المتدين. وقد يقف بعض المعترضين عند هذا الحد، ولا بأس في ذلك، ولكن قد يستطرد آخرون، وهو أمر ملاحظ أيضا، في محاولة ربط مثل هذا القصور في فهم العلوم المعاصرة بالتدين والدين، وهنا مشكلة وتوجه ربما ينمّ عن شيء من البعد عن الانصاف، إذ لا يستلزم القصور في فهم مجال معرفي معين قصورا في مجال معرفي يختلف كثيرا عن الأول. ومن ناحية أخرى ينبغي أيضا التنبه إلى أن نفس مشكلة عدم وضوح صورة العلوم المعاصرة قد تظهر أيضا لدى بعض غير المتدينين الراغبين في البحث عن أساس علمي منطقي متين معاصر للإلحاد، فما أعرفه أنْ ليس في العلوم المعاصرة، منطقا ولغة ومنهجا، ما يبت في هذه المسألة. أظن أن وضوح صورة العلوم المعاصرة مطلب مهم، لكل من يرغب في أن يشمل تلك العلوم في حديثه.

يجد القاريء الكريم تفصيلا للحديث عن عدة جوانب لموضوع العلاقة بين الدين والعلم المعاصر في عدد من مقالات هذه المدونة، ومن ضمنها مقالتان عن آراء برتراند راسل، أولاهما تعليق مفصل على مقالته المعنونة "التصوف والمنطق" (هنا) والثانية محاولة لفهم موقف راسل من الإيمان بالله (هنا). ولا أدعي الفهم العميق لهذه المواضيع، إنما هي ملاحظات عابرة من واحد مهتم ومتابع لمواضيع مثل المنطق والمنهج العلمي المعاصر و علم التوحيد و التصوف، ولكنه ليس خبيرا فيها.

 

العلوم الدنيوية و العلوم الدينية: هل الأصل هو الإنسجام أم التباين؟

 

برتراند راسل من أبرز من كتب في المنطق الحديث والفلسفة العلمية في القرن العشرين، وانتهى في مقالة له تناولت إمكانية أن يصف نفسه بالملحد أو اللا أدري، بأن وصف نفسه باللاأدري وليس الملحد الصرف. وما فهمته هو أن موقفه ذلك مستند إلى الفهم المعاصر للمنطق والمنهج العلمي. لذلك لا أظن أن فهم وتفسير موقفه يتطلب دراسة شخصيته وتاريخ حياته بقدر ما يتطلب فهما جيدا للمنطق والمنهج العلمي: ما يبحثه ويهتم به ويركز عليه البحث العلمي المعاصر وما لا يخوض فيه ولا يتطرق إليه أصلا، لأنه خارج عن نطاق الاهتمام والأولويات ، ولم يضعه المساهمون في حسبانهم عند تصميمه وتحديد خصائصه، لتناول ما وراء تلك الاهتمامات والأولويات. أظن أن من الممكن القول بأن هناك قصورا طبيعيا وأساسيا في المنهج العلمي المعاصر، من حيث التصميم، فيما يخص تناول مواضيع خارجة عن الاطار الذي صمم للبحث فيه. وتفصيل ذلك سيجده القاريء في المقالة الثانية، المشار إليها أعلاه، عن موقف راسل.

 

*

كما سبق ذكره في المقالة السابقة عن المنطق والمشار إليها في بداية هذه الصفحة، فالحيرة هي ما يمكن أن يصل إليها العالم الرياضي والسالك الصوفي. وسبب الحيرة بالنسبة للعلماء المعاصرين والرياضيين هو الافتقار إلى وضوح تام للرؤية وعدم العثور على جواب حاسم لسؤال : أين القاع؟

أتابع تطورات البحث في الفيزياء الحديثة (في المقالات الموجهة لغير المتخصصين طبعا)، ويزيد تعجبي مع مرور الوقت. نعم هناك ، وكما في أي مجال علمي بشري، ما يجمع اغلب العلماء على أنها مفاهيم أو نظريات أو افتراضات مقبولة ومناسبة ، ولكن هناك أيضا نظريات وافتراضات اخرى لا تكاد ترى لها حدا وفي اتجاهات مختلفة. وسواء المجمع عليه أوغير المجمع عليه، فالسؤال، بناء على نظرة مادية عقلانية بحتة، لا يزال قائما: أين القاع؟ أين نهاية البحث والتساؤل؟

قبل بضعة أجيال (في نهاية القرن التاسع عشر والربع أو الثلث الأول من القرن العشرين)، كانت الرؤية العلمية المنتشرة تؤكد وبكل ثقة على وجود أجوبة نهائية حاسمة سواء في الرياضيات أو الفيزياء أو في مختلف العلوم، حتى وإن لم يتم الوصول إليها إلى ذاك الوقت، ولكن ثقتهم كانت بأن سيصل إليها العلماء يوما ما. وما لا يمكن تجاهله هو ملاحظة أن مع الوقت ازداد عدد العلماء والباحثين من مختلف الجنسيات والثقافات بشكل ملفت (بحثت عن إحصائيات حول عدد الحاصلين على الدكتوراه في العالم في أيامنا هذه، ووجدت التقديرات تتراوح بين ستة إلى عشرة ملايين). وصاحب ذلك تعمق الدراسات وتوسعها ووفرتها بحيث صار يصعب تتبع وحصر كل الدراسات والأبحاث المنشورة حتى في تخصص جزئي محدد. ولكن صاحب ذلك أيضا ومع الوقت وبشكل جدير بالملاحظة، ترك العلماء بصفة عامة القول بوجود أجوبة حاسمة ونهائية في اي مجال علمي، ولم يعد ملاحظا الحديث عن القاع ونهاية البحث. والموقف المنتشر اليوم، في حدود فهمي لهذا الموضوع، أن لا جواب حاسم ونهائي، بل البحث والدراسات مستمرة وستستمر. نعم لا يزال البعض يأمل في العثور على جواب حاسم يوما ما ولكن التوجه الغالب، كما فهمت، يرى أن البحث العلمي المستمر سمة ثابتة للعلوم البشرية.

من الملاحظ أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي فترة شهدت أمرين بارزين : رأي منتشر بين العلماء يثق بحتمية الوصول إلى إجابات حاسمة. هذا من جهة ومن جهة أخرى تبنٍّ منتشر لمفهوم الالحاد الصرف سواء في اوساط العلماء أو غيرهم. لكن، مع مرور الوقت، واتجاها الى نهاية القرن العشرين نلاحظ في الاوساط العلمية تنامي النأي عن تبني وجود إجابات حاسمة ، ولكن في نفس الوقت كان هناك انحسار تدريجي ملحوظ في تبني الالحاد الصرف سواء في الاوساط العلمية أو عند غيرهم. وحلت اللاأدرية بصفة عامة محل الإلحاد الصرف لدى غير المتدينين. (ينبغي أن أذكر أن مسار الأمرين ربما يكون ملفتا للنظر ولكن لا أعرف إن كان من الممكن القول بوجود علاقة يمكن الاعتداد بها بينهما.)

وربما لا عجب إذا إن وجدنا تفطنا سابقا لعصره وبيئته في بداية القرن العشرين، من رجل مثل راسل لموضوع حدود المنطق والمنهج العلمي، مسجلا لاأدريته وعدم يقينه سواء فيما يخص الالحاد الصرف أو الإيمان بالله. غاية ما أمكنه القول هو لا أدري. فلا المنطق ولا المنهج العلمي الذين عرفهما تماما وأتقن استخدامهما ساعداه على الخروج من اللا أدرية. وينبغي تسجيل أنه أدرك حدود معرفته واكتفى بـ "لا أدري".

ولكن هل سنشهد مرحلة ما بعد اللاأدرية؟ الموقف اللاأدري المنتشر يشير إلى إقرار بأن هناك دائما معلومات خارجة عن نطاق معرفة الإنسان في نقطة ما من الزمن. هناك دائما معرفة متحققة عند مستوى إدراك معين وطريقة نظر معينة للوجود، وخارج دائرة المعرفة المتحققة، هناك دائما ما يمكن أن يُعْرَفْ. ومع أهمية التنبه إلى وجود فوارق بين نظرتي الدين والعلم المعاصر، ولكن ربما يجدر التساؤل: ما هي أوجه اختلاف مثل ذلك الإقرار، عن الإيمان بالغيب لدى المتدينين؟

 

*

هل حدود المنهج العلمي مطلقة ؟ أبدا، لا أحد يزعم ذلك. وأوضح وأبسط دليل هو أن المجال مفتوح لكل من يرغب ويقدم ما يفيد في تطوير المنهج، والحدود بطبيعتها تتبع تطور المنهج. والكل يدرك بأن تلك الحدود في إطار تصميم ووضع البشر، ممن اتفقوا على أنها تبدو مناسبة. هذا كل ما في الأمر. وكونها علوما بشرية يعني أن لا غرابة في ظهور النقص والقصور ، وبالتالي أهمية إبقاءها في إطار يتيح مراجعتها كلما تطلب الأمر ذلك، وعدم الركون إليها ركونا يتم معه التغاضي عن جوانب القصور المحتملة، وكل ذلك من الحصافة والفطنة في ملاحظة حدود المعرفة البشرية، وهو ما تتسم به الحركة العلمية المعاصرة، وهذا يسجل لها.

 

*

لا شك في فائدة المنطق ومنهج العلوم المعاصرة، في إطار الحدود والغايات التي تم تصميم تلك الأدوات من أجلها. ولكن أليس من البداهة في ضوء ذلك، التنبه إلى مدى مناسبة تحكيم تلك الأدوات على كل ما يمكن أن يُعْرَفْ؟

أتذكّر هذه النقطة في العلوم المعاصرة كلما لاحظت بعض المحاولات لتحكيم المنهج العلمي على كل ما يمكن أن يُعْرَفْ، ولا أدري لم أتذكّر حينها قول سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، متعجبا من قومه : "أتعبدون ما تنحتون؟".

مع حرصي على متابعة هذه الأمور، لم أسمع من المختصين حتى الآن من يقول بأن للمنهج العلمي قوانين مطلقة، فلا أدري كيف يمكن تفسير بعض الآراء التي يبدو أنها لا ترى غضاضة في أن نُحَكّمَ ما نصممه ونضع حدوده بأيدينا، على كل ما يمكن أن يُعْرَفْ.

اللا أدرية موقف منصف في الحقيقة لمن لا يدري حقا. ولكن هل يصح بناء على ذلك الموقف إنكار أن تكون هناك حقائق نهائية وإنكار إمكانية الوصول إليها؟ لا أعرف كيف يمكن تفسير الآراء التي تتبنى مثل ذلك الإنكار. أليس من الانصاف لمن يتبنى الفهم المعاصر للمنطق والعلوم أن لا ينفي إمكانية وجود يقين جازم في هذا الوجود؟

وأظن أن من المهم هنا التفرقة بين المنطق والمنهج العلمي في عصرنا من جهة وبين محاولات استخدام تلك الأدوات والاستفادة منها لتقرير توجه اعتقادي معين عن أصل وطبيعة الوجود. وهو ما يمكن أن نجده في بعض الكتابات اللادينية. والمثير للتعجب بالنسبة لي أن مثل ذلك الاعتقاد يبدو وكأنه قد اتخذ مسلمة يتم الانطلاق منها في محاولة للاستفادة من المنهج العلمي لاثبات صحة المسلمة. ولكن أليس ذلك السلوك قريب جدا أو هو نفسه أساس مشكلة "التفكير الدائري" (Circular Reasoning) أو مشكلة التأكيد المسبق للنتيجة (Affirming the Consequent) التي أثيرت في بعض كتابات عصر النهضة وتبناها البعض إلى يومنا، كحجة لبيان ما وُصِفَ بجانب ضعف في التوجه العقلاني الديني التقليدي في محاولات إثبات الحقائق الدينية باستخدام المنطق البشري؟ (ملحوظة #1).

عبارة "Hijacking Religion" متداولة، وتعني "خطف الدين". و يبدو أن المقصود من "الخطف" هو تقريبا فرض تصور معين على أمر ما، بينما قد يكون ذلك التصور مخالفا لطبيعة ذلك الأمر أو معبرا عن زاوية محددة للرؤية أو فهم محدد. ولكن هل الدين فقط هو المعرض للخطف؟ ألا يعتبر فرض تصور ما على علم المنطق وعلى المنهج العلمي المعاصر نوعا من الخطف أيضا؟ بتعبير آخر، هل من شيء يستلزم تقييد المنهج العلمي بمسار معين في تفسير الظواهر الاجتماعية والطبيعية؟ من المهم ذكره أن الموقف العلمي المعاصر لا يمنع أبدا تطور الفهم البشري للظواهر التي تتم دراستها، وهو أبعد ما يكون عن محاولات خطف المنهج العلمي أو المنجزات العلمية، وهي محاولات يمكن أن نجد شيئا منها في كتابات بعض المتدينين وبعض غير المتدينين على حد سواء، مع إحسان الظن بالجميع والجزم بأن الكل حريص على الإنصاف والوصول إلى الحقيقة. ولا عجب إن أثارت مثل تلك المحاولات الاستغراب أو الاستهجان في بعض الأحيان من قبل بعض العلماء المعاصرين.

أعتقد أن هناك زوايا للنظر إلى الوجود ، ممكنة وممكن الاستفادة منها، ولكن التعامل مع أي منها وكأنها الوحيدة الممكنة أمر آخر. أظن أن هناك سعة في الأمر، وأن من الممكن دائما التوجه نحو رؤية أعم وأفق أوسع للمعرفة البشرية.

 

*

خلاصة ما أريد الوصول إليه، في حدود فهمي، فيما يخص تناول العلاقة بين الدين والعلم: إعتقاد أن المنطق والمنهج العلمي المعاصر مُحْكَمَان لا مجال لنواح قصور محتملة فيهما ، مخالف لما في كتب المتخصصين في هذا المجال، وهو أمر غير واقعي. نعم هو حلم يتمنى البعض صادقا تحققه، ولكنه بقى ولا يزال حلما. والعامل المشترك كما يبدو لي حول هذه النقطة بين المهتمين بالدين والمهتمين بالعلم المعاصر هو إدراك فطري بأن المعرفة البشرية مهما تطورت لن تتسم بالاحاطة والكمال وتمام الاتساق. ولذلك ففي مثل ذلك الاعتقاد مبالغة في تقدير المنطق والمنهج العلمي المعاصر. وأظن أن من المهم السؤال والبحث والتوسع في التحقق والتوثق من هذه النقطة المحددة. ففي حدود اطلاعي، وجدت هذا الفهم غير المكتمل المعتمد على المبالغة غير الواقعية في تقدير العلوم المعاصرة، يؤخذ كمقدمة مفروغ منها أو يُظَنّ أنها نقطة انطلاق جيدة في بعض الجهود المعاصرة. ومن ثمّ استغرابي لما أجده في محاولات بعض السادة والسيدات الحريصين على الحديث والحوار في مواضيع تشمل العلم والدين بأسلوب معاصر ، مع احترامي وتقديري لمختلف الجهود التي تتحرى الأمانة والإنصاف.

في ظل ما سبق، أظن أن من المهم على المتدين وغير المتدين ملاحظة شروط وقوالب كل من العلوم المعاصرة والدين. والتساؤل عن مدى جدوى تحكيم التفكير العقلاني المعاصر والتقيد بشروطه وقوالبه في نقاش مفاهيم دينية غاية في العمق، ربما تعلق بعضها بما قبل نشأة العقل البشري والتفكير العقلاني أصلا. ثم إن للعقل عند العرب معان، منها ما يبدو مأخوذا من استخدامات لغوية في ثقافة وبيئة ولغات غير عربية وهو ما يظهر وكأنه الفهم المقيد بشروط نسبية معينة وقوالب مناسبة للتفكير العقلاني، متفق عليها في زمن ومكان ما وهي كما سبق ذكره محددة مصممة حسب رغبتنا وليس فيها أمر مطلق، ومنها المعنى الأصيل الذي نجده في قواميس اللغة وهو إدراك الأشياء على حقيقتها، أو رؤية الأمور على ما هي عليه، أو أن يتحقق فهم عميق للأشياء. ولكن هل يستلزم مثل ذلك الإدراك أو الفهم طريقة يحددها الإنسان مسبقا للوصول إليه؟ ، أو أن يجد المرء أو لم يجد في تعبيرات التفكير العقلاني التي وصل إليها أي كائن عاقل بغض النظر عن الزمان والمكان، ما يساعد على التعبير عنه تعبيرا تام الاتساق؟ ربما كان المعلوم أمر، والوصول إليه أمر آخر، والتعبير عنه بإحدى طرق التعبير الممكنة شيء آخر.

 

طيب ما الحل؟ الحل، والله أعلم، يبدأ أولا بالفهم المتوازن الواقعي للمنهج العلمي والمنطق المعاصرين وكذلك بالنسبة لفهم المنهج الديني. وتجنب التعامل مع المجالين وكأنهما مجال واحد تنطبق عليه نفس الشروط والقوالب. نعم، الأصل هو أن الوجود واحد بالنسبة للجميع وامكانية التوصل الى رؤية موحدة موسعة لها منهج متجانس موسع عميق أمر جميل، ولكن لا أظن أننا كمجتمع بشري وصلنا إلى تلك المرحلة. وإلى أن نصل، أعتقد أن من المهم التنبه والتمييز بين مجالي العلم والدين وفهم كل منهما فهما واقعيا. وعند التحدث عن العلاقة بين الدين والعلم من المهم مراعاة الفوارق بينهما في المنهج والمصطلحات والغايات.

وثانيا، ملاحظة كيفية تعامل علمائنا السابقين مع هذه المواضيع، فهي لم تفتهم. فالإمام الغزالي مثلا، فرّق بين الفلسفة الإلهية اليونانية والعلوم اليونانية الدنيوية مثل الحساب والطب. وانتقاداته انحصرت في الفلسفة الالهية. ومن الملاحظ عليه عدم وجود مشكلة لديه في استخدام المنطق والتعبير بفكر عقلاني (أو بـ "النظر الفكري" كما كان يسمى احيانا). ولكن عند الحديث عن مفاهيم دينية عميقة نجد من نفس الرجل الذي أثبت معرفته بالمنطق والتفكير العقلاني، أسلوبا مختلفا في التناول والعرض، وربما نجد تكرار الإيماءات والإشارات وأيضا التوقف عند نقاط وتجنب الخوض فيها، وهكذا. وأستبعد أن يكون ذلك مصادفة، بل ربما كان السبب هو فرق ما، بين ما يمكن التعبير عنه بطرق التعبير البشرية مهما أفصحت، وأدوات التحليل مهما تطورت، وبين ما لا يمكن استيعابه وفهمه حقيقة إلا بتذوق الحال و التحقق بالمقام و الرؤية بالعيان.

والمنهج الديني يوضح الطريق إلى ذلك المستوى من الإدراك والفهم، وهو مشروح مبسوط منذ القدم ويمكن ملاحظة آثاره ومعالمه في ثقافات مختلفة. و باختصار، يتطلب سلوكه سكونا في الجوارح وسموا في الأخلاق والتعامل وصمتا داخليا وسكينة في النفس وخروجا من الصندوق. والمسألة أبعد ما تكون عن السلوكيات الضارة بالنفس وبالاخرين والانفعالات الجياشة والمشاعر السلبية والانتصار للنفس، بل هي في عكس ذلك الاتجاه تماما.

و التوجيهات الدينية في أصلها علامات تدل على الطريق وتنيره، وكما ذكر في القرآن الكريم عن سيدنا محـمد صلى الله عليه وسلـم : "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعن" والسبيل الطريق، وكما لا يخفى فكلمات مثل "المذهب" و "السنة" و "السلوك" و "المنهج" كلها تشير إلى طريق. والحرام والحلال في الدين هما في إطار ما يبعد أو يقرب الإنسان من الله (في الحديث الشريف "ما تركت شيئا يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه").  فطريق الدين في النهاية له هدف أسمى هو أن يكون المرء من المقربين إلى الله وليس من المبعدين، والقرب والبعد يشيران إلى مسافات على "طريق". والمسافات ليست مادية بل معنوية متعلقة بمستويات العلم والادراك. فأستاذ الرياضيات وابنه الطالب في الابتدائية قريبان من بعضهما مسافة مادية ولكن بعيدان عن بعضهما في فهم الرياضيات. هذا في العلوم التحليلية العقلانية، والامر مشابه في أي علم من العلوم. ولكن في العلوم الدينية وخاصة في المفاهيم العميقة هناك بعد آخر لا يدخل في اهتمامات العلوم المعاصرة، وهو وعي الإنسان بكيانه وذاته ومعرفته بسبب وجوده وتوجهه إلى أسمى الغايات ومنتهى السعادات وهي معرفة الله عز وجل. قال تعالى "ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ويذكر الإمام الرازي في تفسيره بأن معرفة الله من معاني "يعبدون".

والأنبياء عليهم السلام أعرف الخلق بالطريق إلى الله. وقد تكررت في القرآن الكريم عبارة "إني على بينة من ربي" عدة مرات على لسان أنبياء الله عليهم السلام وهم يتحدثون إلى أقوامهم. وبالنسبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هناك الآية 57 من سورة الانعام، والتي يعلق عليها ابن عجيبة في تفسيره قائلا: "قل إني على بينة أي: طريق واضحة من ربي توصلني إلى تحقيق معرفته."

و بداية وضوح الطريق ومعالمه في اتباع التوجيهات الدينية (الحرص على الفروض والنوافل والمستحبات وتجنب المحرمات والمكروهات) و السلوكيات والاخلاق والآداب التي يحث عليها الدين. وهذه المرحلة تؤدي إلى التقوى وأولى مراحل صفاء النفس، حيث يصبح للذكر أثر أقوى لم يكن من قبل في جلاء الرؤية. كما قال الإمام الغزالي في الاحياء معلقا على الآية الكريمة (الاعراف - 201) "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"، قائلا: "فأخبر [الباري عز وجل] أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف والكشف باب الفوز الأكبر وهو الفوز بلقاء الله تعالى."

وكما هو واضح، فأيا كان الإنسان من حيث الثقافة ومستوى التعليم والذكاء، فليس في المسألة تحليلات عقلانية مركبة ولا فلسفة معقدة، هي تجربة إنسانية عادية أساسية تمس صميم كيان الإنسان وذاته وعلاقته بالخالق الباري. ولكن في نفس الوقت تحتاج إلى دليل أو خريطة أو مرشد، وهنا يأتي دور فهم أساسيات أركان الدين مثل معنى "لا إله إلا الله محمد رسول الله" (تشرح بمستويات متعددة من التفصيل في كتب علم التوحيد أو علم الكلام) وأساسيات الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج (تشرح أيضا بمستويات  متعددة من التفصيل في كتب الفقه). ثم تأتي الأذكار والأوراد ومن أهمها قراءة القرآن الكريم والصلاة على النبي، وصيغ الأذكار كثيرة متعددة وبسبب الفائدة التي يتم الحصول عليها من مثل تلك الأذكار ذكرت باستفاضة في كتب الحديث واهتم بجمعها العلماء والصالحون واعتنوا بصياغتها. وأمور الدين (كما جاءت في حديث سيدنا جبريل وأسئلته للنبي عليه الصلاة والسلام) تشمل الإسلام والإيمان، وهي مفصلة في كتب الفقه والتوحيد، ثم هناك الإحسان وهو محل اهتمام كتب الرقائق والزهد والتصوف، وهذه المرحلة، كما قد توصف أحيانا ، هي ثمرة المرحلتين السابقتين و الوصول إليها نتيجة عادية لتأسس وترسخ مباديء وقواعد الإسلام والإيمان.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

------------------------------------------------------------

ملحوظة #1

الفكرة باختصار: المتدين متحقق بإيمانه بالله قبل الخوض في العقليات، ويسعى مثلا إلى بيان إثبات عقلي لوجود الله وهو أصلا مؤمن بالله ، وهذه هي النقطة التي يسجلها أصحاب ذلك الرأي، متسائلين عن فائدة البدء بافتراض غير ذلك حتى وإن كان جدلا. فالمؤمن حين يبدأ بالطرح العقلاني، مسلّم مسبقا بوجود الله، وإن ضمنا، وإن لم يصرح بذلك في مقدماته، ويسعى للوصول إلى نتيجة تثبت ما هو مسلّم به أصلا. المزيد حول هذه النقطة: هنـا . ولكن تنبغي الاشارة هنا إلى افتراض ضمني آخر قد يستند إليه مثل هذا الانتقاد، وهو وجود ما يمكن أن يوصف بالموضوعية المطلقة، ولكنه افتراض لم يعد له وزن لدى المعاصرين من العلماء بصفة عامة، وحسب فهمي فلا  يبدو أن الصوفية يقرون به. فربما يكون صحيحا أن يُنتقد طرف ما بوجود قصور ما في منطقه، ولكن أنّى للإنسان المنتقد في أي مجهود عقلاني بشري أن يتسم بالاحاطة وتمام الاتساق والموضوعية المطلقة؟

وبالمناسبة، فيبدو أن ذلك الانتقاد، بغض النظر عن بواعثه التي قد تختلف حسب المنتقد، قد تم تسجيله قبل عصر النهضة في بعض الكتابات الصوفية مثل الفتوحات لابن عربي، وكما يبدو في إطار الحديث عن جانب من آراء قلة من علماء الكلام الذين تشددوا في فرض علم الكلام حتى على عوام الناس. أما رأيه في علم الكلام بصفة عامة فقد سجل ترضيه عن علماء الكلام وتقديره لجهودهم ووصفه لعلم الكلام بالعلم الشريف كما جاء في مقدمة الفتوحات، والتفاصيل هنا. ولا أظن أن في الأمر تناقضا. ففي حدود ما فهمته عن رأي السادة الصوفية عموما، فعلم الكلام وسيلة عرض للثوابت الدينية، ووسيلة العرض يمكن أن تتطور حسب العصر، لبيان نفس الثوابت التي لا تتغير. وحسب ما فهمت فأي انتقاد للصوفية لعلم الكلام هو في جوهره بخصوص طريقة عرض معينة لمفاهيم حول ثوابت معينة وليس بخصوص الثوابت في حد ذاتها. ويبدو لي أن عدم ارتياح بعض المهتمين بعلم الكلام تجاه بعض الانتقادات الصوفية منشؤه أخذ مثل تلك الانتقادات وكأنها تمثل انتقادا للثوابت، بينما كما فهمت ربما كان الأمر مجرد انتقاد لطريقة أو أسلوب العرض ليس إلا. و في هذا الرابط حديث عن العلاقة بين الصوفية وعلم الكلام.

 

ملحوظة #2

أذكر لابن عربي ملحوظة حول القياس المنطقي (Deductive Reasoning) حين قال إن نتيجة القياس دائما متضمنة في المقدمات. ربما بمعنى أن ليس في النتيجة المنطقية معلومة جديدة لم تكن معروفة مسبقا ولو ضمنا. وفي ظل ذلك الفهم، فالاستنتاج المنطقي ما هو إلا وسيلة لتوضيح فكرة فقط وليس وسيلة للوصول إلى معلومة جديدة تماما، لم تكن معروفة من قبل ولو من قبيل الحدس. وبالنسبة للمقدمات، فهي بطبيعتها تعتمد كليا على اختيار وصياغة المستنتج. هنا، كما فهمت، محور تركيز المناطقة المتأخرين (ويقرب منه ما فهمته عن الصوفية)، عندما يشيرون إلى عدم إمكانية التخلص تماما من الذاتية Subjectivity والنسبية. وربما لذلك توصف المقدمات التي يستند إليها في العلوم المعاصرة بأن أساسها هو الذاتية المشتركة أو الفهم المتفق عليه بين خبراء مجال معين، لمفاهيم معينة تبدو مناسبة كنقطة انطلاق في بناء نظريات في ذلك المجال. ربما كان ذلك هو أفضل ما يمكن اللجوء إليه في ظل عدم إمكانية التحقق بالموضوعية المطلقة.

وبالمناسبة، من الملاحظ على الاستدلال الاستقرائي (Inductive Reasoning) (فضلا ملاحظة أن الاستقراء المقصود هنا هو المصطلح المستخدم في منهج البحث العلمي المعاصر، وأظنه يختلف عن معنى الاستقراء كما يدرس في الكتب الاسلامية التقليدية) وهو النوع الرئيسي الثاني من طرق الاستدلال، أنه باختصار وسيلة للتدقيق في مجموعات من المعلومات المتوفرة التي يمكن الوصول إليها، في محاولة للتعرف على أنماط يمكن التعويل عليها في تفسير علاقة ما بين متغيرات معينة.

ربما يمكن القول بإن طريقتا الاستدلال لا تقدمان في الواقع معلومات جديدة تماما، بل معلومات معروضة بتنسيق أفضل وتعبيرات أدق، والهدف من مثل هذا العرض هو الوصول إلى فهم أوضح و أفضل للظواهر.

 

ملحوظة #3

نقطة مهمة ربما تساعد على فهم أفضل للموضوع، هي أن مفهوم "اليقين" لدى العلماء المعاصرين يختلف عن ما يعرفه المتدينون. فلدى المتدينين يقين قطعي، على الأقل في ما يخص الثوابت الأساسية مثل الإيمان بالله والرسل والكتب المنزلة، وربما يكون ظنيا في المباحث البشرية الدينية كما هو الأمر في فتاوي المذاهب الفقهية وربما يكون الاختلاف فيها دليل على ذلك، حيث يظهر دور الاجتهاد واللجوء حينها إلى ما يوصف بـ "الظن الراجح" ، واختلاف المجتهدين لا بأس فيه بل هو رحمة كما يعرف المتدينون. (وهنا تظهر أهمية دور "معتمد المذهب" ، ويبدو أن الفكرة فطرية تنشأ تلقائيا في أي جهد بشري منظم كما هو الحال في الفقه أو في أي مجال من مجالات العلوم المعاصرة. فهناك اجتهاد في الرأي يلتزم بقواعد معينة، ثم التنقيح والمراجعة وملاحظة ما يتفق عليه معظم المختصين.)

أما لدى العلماء المعاصرين فنقاط الانطلاق تستند إلى الظن الراجح أصلا، فلا عجب إذا إن كان اليقين نسبي دوما وما يصلون إليه من معلومات محل ظن راجح أبدا، فالاجتهاد البشري في العلوم المعاصرة يشمل كامل الصورة من الأسس إلى النتائج. ولا أظن أن في الأمر تناقضا، وربما يكفي فهم الأسس والغايات والأولويات لكل من الطرفين لفهم ما عليه كل من الموقفين.